سورة هود - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


قلت: لما حرف وجود لوجود، تفتقر للشرط والجواب. فشرطها: {ذهب}، وجوابها: محذوف أي: جعل يجادلنا. والتأوه: التفجع والتأسف، ومنه قول الشاعر:
إِذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ *** تأوّهُ آهةَ الرجل الحزين
يقول الحق جل جلاله: {فلما ذهب عن إبراهيمَ الرَّوعُ}، وهو ما أوجس في نفسه من الخيفة، {وجاءته البشرى} بدل الروع، جعل {يُجادلنا} أي: يخاصم رسلنا {في} شأن {قوم لوطٍ}، ويدفع عنهم، قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} [العنكبوت: 32]، {إنَّ إبراهيمَ لحليمٌ}، غير عجول من الانتقام إلى من أساء اليه. {أواهٌ}؛ كثير التأوه والتأسف على الناس، {منيب}، راجع إلى الله. والمقصود من ذلك: بيان الحامل له على المجادلة، وهي: رقة قلبه وفرط ترحمه. قال تعالى على لسان الملائكة: {يا إبراهيمُ أعرضْ عن هذا}، الجدال؛ {إنه قد جاء أمرُ ربك} بهلاكهم، ونفذ قضاؤه الأزلي فيهم، ولا مرد لما قضى، {وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}؛ غير مصروف بجدال ولا دعاء، ولا غير ذلك.
الإشارة: قال الورتجبي: قوله تعالى {إن أبراهيم لحليم أواه}؛ حليم بأنه كان لا يدعو على قومه، بل قال {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وتأوه زفرة قلبه من الشوق إلى جمال ربه، هكذا وصْف العاشقين. ثم قال: ومجادلته كمال الانبساط، ولم يكن جهلاً، ولكن كان مُشفقاً، باراً كريماً، رأى مكانة نفسه في محل الخلة والاصطفائية القديمة، وهو تعالى يُحب غضب العارفين، وتغير المحبين، ومجادلة الصديقين، وانبساط العاشقين حتى يحثهم على ذلك.
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال: أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ أي: يجترئ عليه انبساط فقلت: وهل يليق له ذلك؟ فقال: يعرفه؛ فيتحمل عنه» ثم قال: ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. اهـ. قال في الصحاح: يَتَذَمَّرُ على فلان: إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، ما لم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه: {يا أبراهيم أعرض عن هذا}. فالشفقة التي تؤدي إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار، وفي الحكم: ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله. ولهذا قالوا: الشفقة لا تليق بالأولياء.
قال جعفر الصادق رحمه الله: ست خصال لا تحس بستة رجال: لا يحسن الطمع في العلماء، ولا العجلة في الأمراء، ولا الشح في الأغنياء، ولا الكبر في الفقراء، ولا الشفقة في المشايخ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب. وقولنا: الشفقة لا تليق بالأولياء، يعني إذا تعين مراد الله، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته. والله تعالى أعلم.


قلت: {سيء}: مبني للمفعول، صلة: سَوِئ، نُقلت حركة الواو إلى السين بعد ذهاب حركتها، ثم قلبت الولو ياء. و{ذرعاً}: تمييز محول عن الفاعل، أي: ضاق ذرعه، وهو كناية عن شدة الانقباض عن مدافعة الأمر المكروه، وعجزه عن مقاومته. و{لو أن لي بكم قوة}: إما للتمني فلا جواب له، أو محذوف، أي: لدفعت.
وفي {أَسْرَ} لغتان: قطع الهمزة من الإسراء، ووصلها من السُّرى، وقرئ بهما معاً، و{إلا امرأتك} الرفع؛ بدل من {أحد}، وبالنصب؛ منصوب بالاستثناء من {فأسر بأهلك}. ومنشأ القراءتين: هل أخرجها معه، فالتفتت أم لا؟ فمن رفع ذهب إلى أنه أخرجها. ومن نصب ذهب إلى أنه لم يسر بها، وهما روايتان.
يقول الحق جلاله: {ولما جاءت رسلُنا}، وهم الملائكة المتقدمون، {لوطاً سِيءَ بهم} ساءه مجيئهم؛ لأنهم أتوه في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن أنهم بشر، فخاف عليهم من قومه أن يقصدوهم للفاحشة، ولا يقدر على مدافعتهم، {وضاقَ بهم ذرعاً} أي: ضاق صدره بهم، {وقال هذا يومٌ عصيبٌ}: شديد من عصبه: إذا شده، ورُوي أن الله تعالى قال لهم: لا تهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله، قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله أنها شرُّ قرية في الأرض عملاً. قال ذلك أربع مرات. فدخلوا منزله، ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرتهم، {وجاءه قومُه يُهرَعُون}؛ يُسرعون {إليه} كأنهم يُدفعون إليه دفعاً، لطلب الفاحشة من أضيافه. {ومن قبل} ذلك الوقت {كانوا يعملون السيئات}؛ الفواحش، كاللواطة، وغيرها، مستمرين عليها مجاهرين بها، حتى لم يستحيوا وجاؤوا يهرعون إليها.
{قال يا قوم هؤلاء بناتي} تزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل، فلا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفار، فإنه شرع طارئ؛ قال ابن جزي: وإنما قال لهم ذلك؛ ليقي أضيافه ببناته. قيل: إن اسم بناته، الواحدة: ريثا، والأخرى: غوثاً. اهـ. ولم يذكر الثالثة، فعرضهن عليهم، وقال: {هنَّ أطهرُ لكم}؛ أحل لكم، أو أقل فحشاً، كقولك: الميتة أطيب من المغضوب، {فاتقوا الله} بترك الفواحش، {ولا تُحزون}؛ لا تفضحوني {في ضيفي}؛ في شأنهم، فإن افتضاح ضيف الرجل خزي له. {أليس منكم رجلٌ رشيدٌ}؛ عاقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
{قالوا لقدْ علمتَ ما لنا من بناتك من حقٍّ}؛ من حاجة، {وإنك لتعلم ما نُريد} وهو إتيان الذكران، {قال لو أن لي}؛ ليت لي {بكم قوةً} طاقة على دفعكم بنفسي، {أو آوي إلى ركن شديد}؛ أو ألجأ إلى أصحاب أو عشيرةٍ يحمونَني منكم، شبه ما يتمتع بهم بركن الجبل في شدته، قال صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ أَخي لُوطاً لقد كَانَ يأوي إِلى رُكنٍ شَديدٍ» يعني: الله تعالى.
رُوي أنه أغلق بابه دون أضيافه، وأخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب، {قالوا يا لوطُ إنا رُسلُ ربك لن يصلُوا إليك}: لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا، فهو عليك ودَعْنا وإياهم. فخلاهم، فلما دخلوا ضرب. جبريل عليه السلام بجناحيه وجوههم، فطمس أعينهم، وأعمالهم، فخرجوا يقولون: النجاء؛ النجاء في بيت لوط سحرة، فقالت الملائكة للوط عليه السلام: {فأسرٍ بأهلك}؛ سِر بهم {بقطع من الليل}: بطائفة منه، {ولا يلتفت منكم أحدٌ}: لا يتخلف، أو لا ينظر إلى ورائة؛ لئلا يرى ما يهوله. والنهي في المعنى يتوجه إلى لوط، وإن كان في اللفظ مسنداً إلى أحد.
{إلا امرأتك}، اسمها: واهلة، أي: فلا تسر بها، أو: ولا ينظر أحد منكم إلى ورائه إلا امرأتك؛ فإنها تنظر. رُوي أنها خرجت معه، فلما سمعت صوات العذاب التفتت وقالت: يا قوماه؛ فأدركها حجر فقتلها، ولذلك قال: {أنه مُصيبُها ما أصابهم} من العذاب، {إن موعدَهُم} وقت {الصُّبحُ} في نزول العذاب بهم، فاستبطأ لوط وقتَ الصبح، وقال: هلا عُذبوا الأن؟ فقالوا: {أليس الصبح بقريب}.
{فلما جاء أمرنا}؛ عذابنا، أو أمرنا به، {جعلنا} مدائنهم {عاليَها سافلَها}، رُوي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم، ورفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب، وصياح الديكة، ثم قلبها بهم.
{وأمطرنا عليهم}؛ على المدائن، أي: أهلها، أو على ما حولها. رُوي أنه من كان منهم خارجَ المدائن أصابته الحجارة من السماء، وأما من كان في المدائن، فهلك لمّا قلبت. فأرسلنا عليهم: {حجارة من سجيل}: من طين طبخ بالنار، أو من طين متحجر كقوله: {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذاريات: 33]، وأصلها: سنكِين، ثم عرب، وقيل: إنه من أسجله إذا أرسله، أي: من مثل الشيء المرسل، وقيل: أصله من سجين، أي جهنم، ثم أبدلت نونه لاماً، {منضود}: مضموم بعضه فوق بعض، معداً لعذابهم، أو متتابع يتبع بعضه بعضاً في الإرسال، كقطر الأمطار.
{مُسَوّمةً} أي: معلمة للعذاب، وقيل: معلمة ببياض وحمرة، أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمي به؛ فكل حجارة كان فيها اسم من ترمى به، وقوله: {عند ربك}، أي: في خزائن علمه وقدرته، {وما هي من الظالمين ببعيد} بل هي قريبة من كل ظالم.
قال ابن جزي: الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين: كفار قريش، فهذا تهديد لهم، أي: ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم؛ لأجل كفرهم، وقيل: الضمير للمدائن، أي: ليس مدائنهم ببعيد منهم؛ أفلا يعتبرون بها. كقوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} [الفرقان: 40]. وقيل: الظالمين على العموم. اهـ. وقال البيضاوي: وعنه عليه الصلاة والسلام: «أَنَّهُ سَأَلَ جِبريل، فَقَال يَعني: ظَالِمي أُمتِكَ، مَا مِنْ ظَالمٍ منهم؛ إِلاَّ هوَ معرض لحَجَرٍ يَسقُط مَنْ سَاعَةٍ إلى ساعة».اهـ.
الإشارة: الاعتناء بشأن الأضياف، وحفظ حرمتهم: من شأن الكرام، والاستخفاف بحقهم، والتجاسر عليهم، من فعل اللئام. وفي الحديث: «مَن كَانَ يُؤمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخر فَليُكرمْ ضَيفَهُ». والإسراع إلى الفواحش من علامة الهلاك، لا سيما اللواطَ والسفاح. والإيواء إلى الله والاعتصام به من علامة الفلاح، والبعد عن ساحة أهل الفساد من شيم أهل الصلاح، وكل من اشتغل بالظلم والفساد فالرمي بالحجارة إليه بالمرصاد.


قلت: {مفسدين}: حال مؤكده لمعنى عاملها، وهو: {لا تعثوا}. وفائدة ذكره: إخراج ما يُقصد به الإصلاح، كما فعله الخضر عليه السلام.
يقول الحق جل جلاله: {و} أرسلنا {إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً}، أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو أهل مدين، وهي بلدهُ، فسميت باسمه، {قال يا قوم اعبدوا الله} وحده؛ {ما لكم من إله غيره ولا تَنقُضوا المكيالَ والميزان}، وكانوا مطففين. أمرهم أولاً بالتوحيد؛ فإنه رأس الأمر، ثم نهاهم عما اعتادوا من: البخس المنافي للعدل، المخل بحكمة المعاوضة، ثم قال لهم: {إني اراكم بخيرٍ}؛ بسعة كرخص الأسعار، وكثرة الأرزاق، فينبغي أن تشكروا عليها، وتتعففوا بها عن البخس، لا أن تنقضوا الناس حقوقهم، أو بسعة ونعمة، فلا تزيلوها بما أنتم عليه؛ فإن من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، {وإني أخاف عليكم عذابَ يوم محيط}؛ يوم القيامة، فإنه محيط بكل ظالم، أو عذاب الاستئصال في الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة، وهي صفة العذاب؛ لاشتماله عليه.
{ويا قوم أوفوا الميكالَ والميزان بالقسط}؛ بالعدل من غير زيادة ولا نقصان. صرح بالأمر بالاستيفاء بعد النهي عن ضده؛ مبالغةً، وتنبيهاً على أنهم لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بالزيادة، حيث لا يتأتى دونها، وقد تكون الزيادة محظورة، ولذلك أمرهم بالعدل في قوله: {بالقسط}، بلا زيادة ولا نقصان.
{ولا تبخسوا الناسَ أشياءهم} لا تنقصوهم حقهم، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنه أعم من أن يكون في الميزان والمكيال وفي غيره، وكذا قوله: {ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين}؛ فإن العثو وهو الفساد يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل: المراد بالبخس: المكس، كأخذ العشور في المعاملات، والعثو: السرقة وقطع الطريق والغارة، وأكد بقوله: {مفسدين} وفائدته: إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعل الخضر عليه السلام، وقيل: معناه: مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم. قاله البيضاوي.
{بقيةُ اللَّهِ}؛ أي: ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن الحرام، {خيرٌ لكم} مما تجمعون بالتطفيف، {إن كنتم مؤمنين}؛ فإن الإيمان يقتضي الاكتفاء بالحلال عن الحرام. أو إن كنتم مؤمنين فالبقية خير لكم، فإن خيريتها تظهر باعتبار الثواب والنجاة من العذاب، وذلك مشروط بالإيمان، أو: إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم. وقيل: البقية: الطاعة، كقوله {والباقيات الصالحات} [الكهف: 46]. وقرئ:تقية الله؛ أحفظ عليكم أعمالكم، وأجازيكم عليها، إنما أنا نذير وناصح مبلغ، وقد أعذرت حين أنذرت. أو: أحفظكم عن القبائح وأمنعكم منها. أو: لست بحافظ عليكم نعم الله إن سُبلت عنكم بسوء صنيعكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما أمر الحق تعالى بالوفاء في الموازين أمر بالوفاء في الأعمال والأحوال والمقامات. ولذلك قيل للجنيد في النوم: أفضل ما يُتقرب به إلى الله عمل خفي، بميزان وفي، فالوفاء في الأعمال: إتقانها في الظاهر، باستيفاء شروطها وآدابها، وإخلاصها في الباطن مع حضور القلب فيها. والوفاء في الأحوال: ألا تخرج عن قواعد الشريعة، بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة، وأن يقصد بها موت النفوس وحياة الأرواح، والوفاء في المقام: ألا ينتقل عن مقام إلى غيره حتى يتحقق بالمقام الذي أنزل فيه. وفيه خلاف بين الصوفية: هل يصح الانتقال عن مقام قبل التحقق به، ثم يحققه في المقام الذي بعده، أم لا؟.
والمقامات التي ينزل فيها المريد: التوبة، الخوف، الرجاءُ، والورع، والزهد، والتوكل، والصبر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء، أو الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان. فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام الذي هو فيه، ذوقاً وحالاً. وقيل: يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله. والله تعالى أعلم. وطريق الشاذلية مختصرة، تطوي عن المريد هذه المقامات، فينزل في أول قدم في مقام الإحسان، شعر أم لا، ثم يحصل الفناء ثم البقاء، إن وجد شيخاً كاملاً تربى على يد شيخ كامل، وإلا فلا.
وقول الجنيد رضي الله عنه: (عمل خفي)، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام: خفاء عوام الصالحين، وهو: إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء. وخفاء المريدين، وهو: الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم، ولو كانوا بين أظهرهم، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي. وخفاء العارفين الواصلين، وهو: الإخفاء عن رؤية النفس، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم، في حال أعمالهم، فليس لهم عن نفوسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. والله تعالى أعلم.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13